سد النهضة- صراع إثيوبيا ومصر والسودان على النيل ومستقبل المنطقة

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع09.12.2025
سد النهضة- صراع إثيوبيا ومصر والسودان على النيل ومستقبل المنطقة

في احتفالية بهيجة، افتتحت إثيوبيا "سد النهضة" وسط أجواء من الفخر والاعتزاز. وقد أُعدّت لهذه المناسبة ترتيبات فائقة الدقة، لتغدو حدثًا وطنيًا بارزًا، وتدشينًا أفريقيًا يرمز إلى مشروع تنموي يخدم قارة أفريقيا بأسرها.

هذا السد، الذي انطلقت أعمال إنشائه في عام 2011 على مجرى النيل الأزرق، أثار منذ اللحظة الأولى للإعلان عنه موجات متلاطمة من الجدل والخلافات بين إثيوبيا ودولتي المصب، مصر والسودان. والسبب في ذلك يعود إلى الطابع الأحادي الذي يكتنف المشروع، والذي يمس مصالحهما الجوهرية، إذ تعتمدان بشكل كبير على مياه النيل، خاصة في المجال الزراعي.

تاريخ حافل بالمناورات

انخرطت القاهرة، ولاحقتها الخرطوم، في مفاوضات مضنية مع الجانب الإثيوبي، الذي لجأ مرارًا وتكرارًا إلى أساليب المراوغة سعياً لكسب المزيد من الوقت. وفي المقابل، سعت القاهرة إلى الاستعانة بوسطاء دوليين، كان أبرزهم الوسيط الأمريكي، ولكن جميع المساعي تكللت بالإخفاق في دفع إثيوبيا نحو إبرام اتفاق يحدد بدقة شروط ملء خزان السد، وآليات إدارته في مواسم الجفاف، بالإضافة إلى الجوانب الفنية الأخرى، التي اعتبرتها أديس أبابا مسألة داخلية بحتة. في المقابل، نظرت إليها القاهرة والخرطوم على أنها جزء لا يتجزأ من أبسط القواعد المتعارف عليها دوليًا في إدارة الأنهار المشتركة، والتي تقضي بإشراك دولة المنبع بقية دول الحوض في أي مشاريع قد تؤثر على النظام المائي للنهر.

وقد وُجّهت دعوات رسمية لمصر والسودان لحضور مراسم افتتاح السد، لكن غيابهما كان يحمل دلالات قوية على حجم الخلاف المتفاقم مع أديس أبابا، وعلى عمق الاستياء من انفراد إثيوبيا بالقرار، وهو النهج الذي بدأ مع عملية الملء الأول في عام 2020.

وتؤكد القاهرة بإصرار أنها لم تستنفد كافة الوسائل التي يمكن من خلالها تقويض المساعي الإثيوبية للاستفراد بالنيل، أو لفرض نفوذها الإقليمي.

إثيوبيا.. تعزيز داخلي ونجاح في الترويج الدولي

من بين الدوافع التي تقف وراء التشدد الإثيوبي، اعتبار السد أداة ناجعة لتقويض الخلافات العميقة المتأصلة، التي تعصف بالوحدة الوطنية الإثيوبية، بين الأورومو والتيغراي والأمهرة، وغيرها من المكونات التي تشكل هذا النسيج الوطني المتنوع، الغني بتعدد الديانات واللغات والثقافات والأعراق. ومن هذا المنطلق، نُظر إلى السد على أنه بمثابة بوتقة انصهار لتلك التناقضات، ورمز جامع للأمة الممزقة.

على الصعيد الخارجي، حظي المشروع الإثيوبي بدعم من المجتمع الدولي. وقد وظفت إثيوبيا خطابًا ذا طابع عرقي للتحريض ضد موقف مصر، معتبرة أن مطالبتها بحقوقها المشروعة في مياه النيل هي ضرب من ضروب "الاستعلاء الأبيض".

كما روجت أن دول شمال أفريقيا "البيضاء" تنظر إلى بقية القارة نظرة استعلائية، مما يعيق تقدمها وازدهارها. وبهذا الخطاب، استقطبت أديس أبابا تعاطفًا واسعًا في القارة الأفريقية، الأمر الذي عجزت القاهرة، بل وحتى الخرطوم "السمراء"، عن مجاراته إعلاميًا.

وقد عمدت إثيوبيا إلى تصوير مشروع السد على أنه رد معنوي على قرون من التهميش والإقصاء، في حين لم يكن لدى القاهرة ما تقدمه سوى سجلها الحافل في دعم القارة الأفريقية بشتى الطرق والوسائل، بما في ذلك احتضان مقر الاتحاد الأفريقي، وتوفير شبكة ربط جوي واسعة النطاق عبر الخطوط الإثيوبية.

كما لجأت أديس أبابا إلى تحريض بعض الدول الأفريقية على مصر والسودان في مناسبات شتى ودون هوادة، مستخدمة اتفاقية عنتيبي كأداة إستراتيجية. هذه الاتفاقية، التي تم توقيعها في عام 2010، دخلت حيز النفاذ في عام 2024، بعد توقيع جنوب السودان عليها، على الرغم من اعتراض مصر والسودان عليها، باعتبارها تعيد توزيع حصص مياه النيل بشكل مجحف، وتمنح دول المنبع حرية إقامة مشاريع على النهر دون الرجوع إلى دولتي المصب.

إضافة إلى التعاطف الأفريقي، حرصت إثيوبيا على كسب تأييد دول كبرى، سواء من خلال إشراكها في عمليات البناء والتشييد، مثل الصين وألمانيا وإيطاليا، أو عن طريق محاولة التحالف مع دول كروسيا والصين، اللتين تسيطران على منابع أنهار تمتد إلى دول أخرى، محذرة من أن نجاح مصر كدولة مصب في فرض سيطرتها على النهر، قد يشجع دول المصب الأخرى في مختلف أنحاء العالم على أن تحذو حذوها. ومن المعلوم أن روسيا والصين تتحكمان في أنهار تتقاسمانها مع دول مثل الهند وبنغلاديش وكازاخستان وغيرها.

القاهرة تنتقد أهداف السد

تنظر القاهرة اليوم بقدر كبير من الاستياء إلى افتتاح "سد النهضة"، أو ما تسميه "السد الإثيوبي"، إذ ترى أنه لم يحقق التنمية المنشودة، لا لإثيوبيا ولا لجيرانها. فمن وجهة نظرها، فإن تشغيل ستة توربينات فقط من أصل 16، وبطاقة توليد لا تتجاوز 1800 ميغاواط من أصل 5600 ميغاواط مستهدفة، يعد مؤشرًا واضحًا على الإخفاق. كما ترى أن فكرة تصدير الكهرباء إلى الخارج تحولت إلى حلم بعيد المنال.

وترى مصر أن افتتاح السد لا يعني بأي حال من الأحوال تكريسًا للأمر الواقع، فالمشكلات الأساسية لا تزال قائمة دون حل: ماذا عن إدارة أزمة الجفاف؟ وماذا لو انهار السد فجأة؟ وأين هي معايير السلامة والأمان؟ فالضرر قد وقع بالفعل على كل من مصر والسودان بعد ملء 64 مليار متر مكعب من المياه في منطقة جيولوجية شديدة الاضطراب، وتتميز بوجود تشققات وصخور هشة، مما ينذر بحدوث انهيارات كارثية في حال وقوع زلازل ناجمة عن هذا الحمل المائي الهائل.

ما الذي تستطيع مصر فعله؟

تتشبث كل من مصر والسودان بحقهما في العودة إلى مجلس الأمن الدولي، استنادًا إلى الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك في محاولة جادة لردع إثيوبيا عن الاستفراد بملف السد. ويعلق البلدان آمالًا كبيرة على مبادرة حوض النيل، باعتبارها منصة مثالية لجذب المزيد من دول المنبع إلى اتفاقية جديدة بديلة لاتفاقية عنتيبي، خاصة في ظل وجود آمال معلقة على انضمام دول مثل تنزانيا وكينيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية.

وكذلك، فإن أحد أهم الأوراق التي تملكها القاهرة في مواجهة التوسع الإثيوبي، هو تعزيز علاقاتها بكل من الصومال وإريتريا. ففي ظل العبث الإثيوبي التاريخي في إقليم أوغادين، وإثارة النزعات القومية، تسعى مصر جاهدة إلى دعم استقرار الصومال، والتعاون الوثيق مع إريتريا لتأمين موطئ قدم لها على ساحل البحر الأحمر، الذي تحلم إثيوبيا بالوصول إليه، كونها إحدى كبرى الدول الحبيسة في العالم.

وقد أقرت القاهرة مع مقديشو، في شهر أغسطس/آب من عام 2024، مشاركة عسكرية ضمن بعثة AUSSOM لدعم أمن الصومال، بواقع 4 آلاف جندي مصري للفترة الممتدة من عام 2025 إلى عام 2029، وذلك بعد انتهاء مهمة بعثة ATMIS، وقد أرسلت بالفعل كميات كبيرة من العتاد والمعدات العسكرية في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2024.

ولم تمر هذه الخطوة مرور الكرام، إذ صرح سليمان ديديفو، سفير إثيوبيا في مقديشو، لقناة "يونيفرسال الصومالية"، قبل أيام قليلة من وصول القوات المصرية، بأن هذا الوجود العسكري يمثل "تحديًا سياسيًا وإستراتيجيًا" للقوات الإثيوبية.

أما في أسمرة، فتسعى القاهرة إلى توسيع نطاق التعاون مع إريتريا في ملفات عديدة ومتنوعة، على أساس مشترك من العداء لجبهة تحرير التيغراي، وهو التقارب الذي يبدو أنه يزداد رسوخًا وتوطيدًا.

داخليًا، تنفذ مصر مشاريع ضخمة وهائلة في مجال ترشيد استهلاك المياه، ومعالجة مياه الصرف الزراعي والصحي، بهدف تحسين كفاءة استخدام الموارد المتاحة. ومن بين هذه المشاريع، محطة "المحسمة" التي تنتج مليون متر مكعب من المياه يوميًا، وتستخدم في ري 60 ألف فدان من الأراضي الزراعية. وهناك كذلك 11 محطة لتحلية المياه تعمل حاليًا، بطاقة إنتاجية تبلغ 485 ألف متر مكعب يوميًا، وذلك ضمن خطة طموحة لزيادة عدد المحطات إلى 23 محطة ما بين عامي 2025 و 2030، وبطاقة إجمالية تصل إلى 2.65 مليون متر مكعب يوميًا.

وهكذا، يبدو أن منطقة حوض النيل لم تشهد أي هدوء أو استقرار على الرغم من افتتاح السد، بل ربما نشهد تصعيدًا جديدًا من نوع آخر، لا يُعرف مداه أو حجمه بعد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة